الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَيُبْطِلَ الْبَاطِل"، حِينَ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ "إِذ" مِنْ صِلَةِ "يُبْطِل". وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، تَسْتَجِيرُونَ بِهِ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَتَدْعُونَهُ لِلنَّصْرِ عَلَيْهِمْ "فَاسْتَجَابَ لَكُم" فَأَجَابَ دُعَاءَكُمْ، بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَجَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَمَّاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَعِدَّتِهِمْ، وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ نَيِّفًا عَلَى ثَلَاثِمَائَةٍ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي! اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ!"، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، وَأَخَذَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: كَفَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي وَأُمِّي، مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.» حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اصْطَفَّ الْقَوْمُ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ! وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا!» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزَلْتَ عَلِيَّ الْكِتَابَ، وَأَمَرْتَنِي بِالْقِتَالِ، وَوَعَدْتَنِي بِالنَّصْرِ، وَلَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ! فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}»، [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 1125]. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ انْصُرْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ! قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ مُنْجِزُكَ مَا وَعَدَكَ.» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُهُ وَيَسْتَنْصِرُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، قَالَ: دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، أَيْ: بِدُعَائِكُمْ، حِينَ نَظَرُوا إِلَى كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ "فَاسْتَجَابَ لَكُم"، بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِكُمْ مَعَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاشِدُ رَبَّهُ أَشَدَّ النِّشْدَةِ يَدْعُو، فَأَتَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعْضُ نِشْدَتِكَ، فَوَاللَّهِ لِيَفِيَنَّ اللَّهُ لَكَ بِمَا وَعَدَكَ!» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، يَقُولُ: الْمَزِيدُ، كَمَا تَقُولُ: "ائْتِ الرَّجُلَ فَزِدْهُ كَذَا وَكَذَا". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ [عَنْ أَبِيهِ]، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: مُتَتَابِعِينَ. قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، [عَنْ أَبِيهِ]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو كَدِينَةَ، عَنْ قَابُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، قَالَ: وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٍ. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي كَدِينَةَ يَحْيَى بْنِ الْمُهَلَّبِ، عَنْ قَابُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: مُتَتَابِعِينَ. قَالَ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ قَابُوسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَانَ يَقُولُ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ. قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: مُمِدِّينَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: (مُرْدِفِينَ)، "الْإِرْدَاف"، الْإِمْدَادُ بِهِمْ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، أَيْ مُتَتَابِعِينَ. حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ] قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (مُرْدِفِينَ)، قَالَ: "الْمُرْدِفِين"، بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، يَقُولُ: مُتَتَابِعِينَ، يَوْمَ بَدْرٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: "مُرْدِفِين"، بِنَصْبِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: (مُرْدِفِينَ). وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقْرَؤُهُ كَذَلِكَ، وَيَقُولُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ: هُوَ مِنْ "أَرْدَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا". وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَقَالَ: إِنَّمَا "الْإِرْدَاف"، أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ خَلْفَهُ. قَالَ: وَلَمْ يُسْمَعْ هَذَا فِي نَعْتِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِفْتُحِ الدَّالِ أَوْ بِكَسْرِهَا. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: "أَرْدَفْتُه". وَقَالُوا: الْعَرَبُ تَقُولُ: "أَرْدَفْتُه". وَ" رَدِفْتُهُ "، بِمَعْنَى" تَبِعَتُهُ "وَ" أَتْبَعْتُه"، وَاسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا *** ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا قَالُوا: فَقَالَ الشَّاعِرُ: "أَرْدَفْت"، وَإِنَّمَا أَرَادَ "رَدَفْت"، جَاءَتْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْجَوْزَاءَ تَجِئُ بَعْدَ الثُّرَيَّا. وَقَالُوا مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ (مُرْدِفِينَ)، أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِمْ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُرْدِفُ اللَّهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ، إِذَا كُسِرَتِ الدَّالُ: أَرْدَفَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِذَا قُرِئَ بِفَتْحِهَا: أَرْدَفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، بِكَسْرِ الدَّالِ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ، أَنَّ مَعْنَاهُ: يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمُتَتَابِعِينَ فَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا اخْتَرْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ الدَّالِ، بِمَعْنَى: أَرْدَفَ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضًا، وَمَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ: "جِئْتُ مُرْدِفًا لِفُلَان"، أَيْ: جِئْتُ بَعْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ "مُرْدِفِين" بِفَتْحِ الدَّالِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، إِذِ الذِّكْرُ الَّذِي فِي "مُرْدِفِين" مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنْ يُمِدَّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُرْدَفُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ الْفَاعِلِ، وَأَخْرَجَ الْخَبَرَ غَيْرَ مُسَمًّى فَاعِلُهُ، فَقِيلَ: (مُرْدَفِينَ)، بِمَعْنَى: مُرْدَفٌ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ بِبَعْضٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ ذِكْرِنَا قَوْلَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي "الْمُرْدَفِين" ذِكْرُ الْمُسْلِمِينَ، لَا ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ. وَذَلِكَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ: "مُرَدِّفِين" وَ" مُرِدِّفِينَ "وَ" مُرُدِّفِين"، مُثَقَّلٌ عَلَى مَعْنَى: "مُرْتَدِفِين". حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيٌّ قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الزَّمْعِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِرْدَافَ الْمَلَائِكَةِ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَتَابُعَهَا بِالْمَصِيرِ إِلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مَدَدًا لَكُمْ "إِلَّا بُشْرَى" لَكُمْ، أَيْ: بِشَارَةً لَكُمْ، تُبَشِّرُكُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ " {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}"، يَقُولُ: وَلِتَسْكُنَ قُلُوبُكُمْ بِمَجِيئِهَا إِلَيْكُمْ، وَتُوقِنَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ لَكُمْ " {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}"، يَقُولُ: وَمَا تُنْصَرُونَ عَلَى عَدِوِّكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِلَّا أَنْ يَنْصُرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لَا بِشِدَّةِ بَأْسِكُمْ وَقُوَاكُمْ، بَلْ بِنَصْرِ اللَّهِ لَكُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ "إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم" يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ، وَبِيَدِهِ نَصْرُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ "عَزِيز"، لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، بَلْ يَقْهَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَيَغْلِبُهُ، لِأَنَّهُ خَلَقَهُ "حَكِيم"، يَقُولُ: حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ وَنَصْرِهِ مَنْ نَصَرَ، وَخِذْلَانِهِ مَنْ خَذَلَ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَدْخُلُ تَدْبِيرُهُ وَهَنٌ وَلَا خَلَلٌ. وَرَوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي ذَلِكَ، مَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: مَا مَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا ذَكَرَ اللَّهُ غَيْرَ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَذَكَرَ "الثَّلَاثَة" وَ" الْخَمْسَةَ "بُشْرَى، مَا مُدُّوا بِأَكْثَرِ مِنْ هَذِهِ الْأَلِفِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي" الْأَنْفَالِ "، وَأَمَّا" الثَّلَاثَةُ "وَ" الْخَمْسَة"، فَكَانَتْ بُشْرَى. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي "سُورَةِ آلِ عِمْرَان"، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم"، "إِذْ يُغْشِيكُمُ النُّعَاس"، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ}، يُلْقِي عَلَيْكُمُ النُّعَاسَ (أَمَنَةً) يَقُولُ: أَمَانًا مِنَ اللَّهِ لَكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَكَذَلِكَ النُّعَاسُ فِي الْحَرْبِ أَمَنَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ، أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: "يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِنْه"، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِنَحْوِهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِهِ. وَ "الْأَمَنَة" مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَمِنْتُ مِنْ كَذَا أَمَنَةً، وَأَمَانًا، وَأَمْنًا" وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {أَمَنَةً مِنْهُ}، أَمَانًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (أَمَنَةً)، قَالَ: أَمْنًا مِنَ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلُهُ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ. فَقَرَأَ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 154]. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "إِذْ يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْه"، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: "يُغْشِيكُمُ النُّعَاس" بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ، وَنَصْبِ "النُّعَاس"، مِنْ: "أَغْشَاهُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ فَهُوَ يُغْشِيهِم". وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (يُغَشِّيكُمُ)، بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، مِنْ: "غَشَّاهُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ فَهُوَ يُغَشِّيهِم". وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: "يَغْشَاكُمُ النُّعَاس"، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرَفْعِ "النُّعَاس"، بِمَعْنَى: "غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ فَهُوَ يَغْشَاهُم". وَاسْتَشْهَدَ هَؤُلَاءِ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهِمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي "آلِ عِمْرَان": {يَغْشَى طَائِفَةً} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 154]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}، عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ، لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، بِتَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (يُغْشِيكُمْ)، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: (وَيُنَزِّلُ)، عَطْفًا عَلَى "يُغْشِي"، لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا عَلَى نَحْوٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطَرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ لِيُطَهِّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِصَلَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْبَحُوا يَوْمَئِذٍ مُجْنِبِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ اغْتَسَلُوا وَتَطَهَّرُوا، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ بِمَا حُزْنُهُمْ بِهِ مِنْ إِصْبَاحِهِمْ مُجْنِبِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِالْمَطَرِ. فَذَلِكَ رَبْطُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَتَقْوِيَتُهُ أَسْبَابَهُمْ، وَتَثْبِيتُهُ بِذَلِكَ الْمَطَرِ أَقْدَامَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا الْتَقَوْا مَعَ عَدُوِّهِمْ عَلَى رَمْلَةٍ مَيْثَاءَ، فَلَبَّدَهَا الْمَطَرُ، حَتَّى صَارَتِ الْأَقْدَامُ عَلَيْهَا ثَابِتَةً لَا تَسُوخُ فِيهَا، تَوْطِئَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَوْلِيَائِهِ، أَسْبَابَ التَّمَكُّنِ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا تَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ [أَصْحَابِ] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ!" فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ، نَادَى: "الصَّلَاةَ عِبَادَ اللَّهِ!"، فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ.» حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَأَبُو خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، قَالَ: طَشُّ يَوْمِ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُدَيٍّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَا طَشُّ يَوْمِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمُ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، قَالَا طَشٌّ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْأَقْدَامَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}" الْآيَةَ، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ مُطِرُوا يَوْمَئِذٍ حَتَّى سَالَ الْوَادِي مَاءً، وَاقْتَتَلُوا عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ، فَلَبَّدَهُ اللَّهُ بِالْمَاءِ، وَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَوَضَّأُوا وَسَقَوْا، وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسْوَاسَ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، «نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي: حِينَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةُ دَعْصَةَ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْغَيْظَ، فَوَسْوَسَ بَيْنَهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ! فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، وَثَبَتَ الرَّمْلُ حِينَ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ، فَسَارُوا إِلَى الْقَوْمِ، وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَهُ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةً، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةً.» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}" إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ لَمَّا خَرَجُوا لِيَنْصُرُوا الْعِيرَ وَيُقَاتِلُوا عَنْهَا، نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَغَلَبُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ، فَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ الظَّمَأُ، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، حَتَّى تَعَاظَمَ ذَلِكَ فِي صُدُورِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً حَتَّى سَالَ الْوَادِي، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَمَلَئُوا الْأَسْقِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ طُهُورًا، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ رَمْلَةٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ، فَضَرَبَهَا حَتَّى اشْتَدَّتْ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَامُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: «بَيِّنًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَسَبَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ تِلْقَاءَ الْبَحْرِ، فَانْطَلَقُوا. قَالَ: فَنَزَلُوا عَلَى أَعْلَى الْوَادِي، وَنَزَلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَلِهِ. فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجْنِبُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَيُصَلِّي جُنُبًا، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمْ فَقَالَ: كَيْفَ تَرْجُونَ أَنْ تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَحَدُكُمْ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ جُنُبًا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ!، قَالَ: فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَاغْتَسَلُوا وَتَوَضَّأُوا وَشَرِبُوا، وَاشْتَدَّتْ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَكَانَتْ بَطْحَاءَ تَدْخُلُ فِيهَا أَرْجُلُهُمْ، فَاشْتَدَّتْ لَهُمْ مِنَ الْمَطَرِ، وَاشْتَدُّوا عَلَيْهَا.» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْمَاءِ، فَظَمِئَ الْمُسْلِمُونَ وَصَلَّوْا مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ رِمَالٌ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْحُزْنَ، فَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّ فِيكُمْ نَبِيًّا، وَأَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَقَدْ غُلِبْتُمْ عَلَى الْمَاءِ، وَتَصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِيْنَ! قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَاءً مِنَ السَّمَاءِ، فَسَالَ كُلُّ وَادٍ، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، وَثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَذَهَبَتْ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، قَالَ: الْمَطَرُ، أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النُّعَاسِ (رِجْزُ الشَّيْطَانِ)، قَالَ: وَسْوَسَتُهُ. قَالَ: فَأَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ، وَالْتَبَدَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النُّعَاسِ، طَبَّقَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ، وَلَبَّدَ بِهِ الْأَرْضَ، وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ الْأَقْدَامُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، قَالَ: الْقَطْرُ {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، وَسَاوِسَهُ. أَطْفَأَ بِالْمَطَرِ الْغُبَارَ، وَلَبَّدَ بِهِ الْأَرْضَ، وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {رِجْزَ الشَّيْطَانِ}"، وَسْوَسَتُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، قَالَ: هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْقَطْرَ (وَلِيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ)، الَّذِي أَلْقَى فِي قُلُوبِكُمْ: لَيْسَ لَكُمْ بِهَؤُلَاءِ طَاقَةٌ! {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، إِنَّ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا بِالْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَغَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الظَّمَأُ، وَصَلَّوْا مُحْدِثِينَ مُجَنِبِينَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْحُزْنَ، وَوَسْوَسَ فِيهَا: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيَّ اللَّهِ، وَقَدْ غُلِبْتُمْ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُحْدِثِينَ مُجْنِبِينَ! فَأَمْطَرَ اللَّهُ السَّمَاءَ حَتَّى سَالَ كُلُّ وَادٍ، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَمَلَأُوا أَسْقِيَتَهُمْ، وَسَقَوْا دَوَابَّهُمْ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ، وَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ الْأَقْدَامَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ رَمَلْةٌ لَا تُجُوزُهَا الدَّوَابُّ، وَلَا يَمْشِي فِيهَا الْمَاشِي إِلَّا بِجَهْدٍ، فَضَرَبَهَا اللَّهُ بِالْمَطَرِ حَتَّى اشْتَدَّتْ، وَثَبَتَتْ فِيهَا الْأَقْدَامُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}"، أَيْ: أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمُ الْأَمَنَةُ حَتَّى نِمْتُمْ لَا تَخَافُونَ، " {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}"، لِلْمَطَرِ الَّذِي أَصَابَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَحَبَسَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَى الْمَاءِ، وَخَلَّى سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، لِيَذْهَبَ عَنْهُمْ شَكَّ الشَّيْطَانِ، بِتَخْوِيفِهِ إِيَّاهُمْ عَدُوَّهُمْ، وَاسْتِجْلَادِ الْأَرْضِ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَنْزِلَهُمُ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ عَدُوُّهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شَأْنِ الْجَنَابَةِ، وَقِيَامِهِمْ يُصَلُّونَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَقَالَ: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيَذْهَبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبُطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامُ}"، حَتَّى تَشْتَدُّونَ عَلَى الرَّمْلِ، وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ مَرَّةُ: قَرَأَ {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا هِيَ: " {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}". قَالَ: وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ طَشًّا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْغَرِيبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَنَّ مَجَازَ قَوْلِهِ: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، وَيُفْرِغُ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ وَيُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ، فَيَثْبُتُونَ لِعَدُوِّهِمْ. وَذَلِكَ قَوْلٌ خِلَافٌ لِقَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ، وَحَسْبُ قَوْلٍ خَطَأً أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَهُمْ فِيهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَيُثَبِّتُ أَقْدَامَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَلْبِيدِ الْمَطَرِ الرَّمْلَ حَتَّى لَا تَسُوخَ فِيهِ أَقْدَامُهُمْ وَحَوَافِرُ دَوَابِّهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}، أَنْصُرُكُمْ {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، يَقُولُ: قُوُّوا عَزْمَهُمْ، وَصَحِّحُوا نِيَّاتِهِمْ فِي قِتَالِ عَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَثْبِيتَ الْمَلَائِكَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ حُضُورُهُمْ حَرْبَهُمْ مَعَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ مَعُونَتُهُمْ إِيَّاهُمْ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَلِكَ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَمَلُوا عَلَيْنَا لَنَنْكَشِفَنَّ! فَيُحَدِّثُ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، فَتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ. قَالُوا: وَذَلِكَ كَانَ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى مَلَائِكَتِهِ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ بِمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، أَيْ: فَآزِرُوا الَّذِينَ آمَنُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ بَنَانٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سَأُرْعِبُ قُلُوبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِي، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِنْكُمْ، وَأَمْلَأُهَا فَرَقًا حَتَّى يَنْهَزِمُوا عَنْكُمْ "فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، قَالَ: اضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ. قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لِأُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، إِنَّمَا بُعِثْتُ لِضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَشَدِّ الْوَثَاق». حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، يَقُولُ: اضْرِبُوا الرِّقَابَ. وَاحْتَجَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: "رَأَيْتُ نَفْسَ فُلَان"، بِمَعْنَى: رَأَيْتُهُ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ، فَاضْرِبُوا الرُّؤُوسَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، قَالَ: الرُّؤُوسَ. وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّ الَّذِي "فَوْقَ الْأَعْنَاق"، الرُّؤُوسَ. قَالُوا: وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقُولَ: "فَوْقَ الْأَعْنَاق"، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: "الْأَعْنَاق". قَالُوا: وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، جَازَ أَنْ يُقَالَ "تَحْتَ الْأَعْنَاق"، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: "الْأَعْنَاق". قَالُوا: وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْخِطَابِ، وَقَلْبٌ لِمَعَانِي الْكَلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَاضْرِبُوا عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَالُوا: "عَلَى" وَ" فَوْقَ " مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبَانِ، فَجَازَ أَنْ يُوضَعَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُعَلِّمَهُمْ كَيْفِيَّةَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبِهِمْ بِالسَّيْفِ: أَنْ يَضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ مِنْهُمْ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ. وَقَوْلُهُ: {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الرُّؤُوسُ، وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لَهُ: مِنْ فَوْقِ جِلْدَةِ الْأَعْنَاقِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: عَلَى الْأَعْنَاقِ. وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ، صَحَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ، مَعْنَاهُ: الْأَعْنَاقُ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نُوَجِّهَهُ إِلَى بَعْضِ مَعَانِيهِ دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَا حُجَّةَ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِضَرْبِ رُؤُوسِ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْنَاقِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، أَصْحَابَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَهُ بَدْرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ بَنَانٍ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَاضْرِبُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِنْ عَدُوِّكُمْ كُلَّ طَرَفٍ وَمَفْصِلٍ مِنْ أَطْرَافِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ. وَ "الْبَنَان": جَمْعُ "بَنَانَة"، وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً *** ولَاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا يَعْنِي بِ "الْبَنَانَة" وَاحِدَةَ "الْبَنَان". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، قَالَ: كُلُّ مَفْصِلٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ بَنَانٍ}، قَالَ: الْمَفَاصِلَ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، قَالَ: كُلَّ مَفْصِلٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، قَالَ: الْأَطْرَافَ. وَيُقَالُ: كُلُّ مَفْصِلٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، يَعْنِي: بِالْبَنَانِ، الْأَطْرَافَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَ بَنَانٍ}، قَالَ: الْأَطْرَافَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، يَعْنِي: الْأَطْرَافَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ)، هَذَا الْفِعْلُ مِنْ ضَرْبِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَضَرْبِ كُلِّ بَنَانٍ مِنْهُمْ، جَزَاءٌ لَهُمْ بِشِقَاقِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعُقَابٌ لَهُمْ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فَارَقُوا أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَصَوْهُمَا، وَأَطَاعُوا أَمْرَ الشَّيْطَانِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وَمَنْ يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ فَفَارَقَ طَاعَتَهُمَا {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، لَهُ. وَشِدَّةُ عِقَابِهِ لَهُ: فِي الدُّنْيَا، إِحْلَالُهُ بِهِ مَا كَانَ يُحِلُّ بِأَعْدَائِهِ مِنَ النِّقَمِ، وَفِي الْآخِرَةِ، الْخُلُودُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَحُذِفَ "لَه" مِنَ الْكَلَامِ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْعِقَابُ الَّذِي عَجَّلْتُهُ لَكُمْ، أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُشَاقُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي الدُّنْيَا، مِنَ الضَّرْبِ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ مِنْكُمْ، وَضَرْبِ كُلِّ بَنَانٍ، بِأَيْدِي أَوْلِيَائِي الْمُؤْمِنِينَ، فَذُوقُوهُ عَاجِلًا وَاعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ فِي الْآجِلِ وَالْمُعَادِ عَذَابَ النَّارِ. وَلِفَتْحِ "أَن" مِنْ قَوْلِهِ: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ)، مِنَ الْإِعْرَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الرَّفْعُ، وَالْآخَرُ: النَّصْبُ. فَأَمَّا الرَّفْعُ، فَبِمَعْنَى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، ذَلِكُمْ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ "ذَلِكُم"، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذَلِكُمُ الْأَمْرُ، وَهَذَا. وَأَمَّا النَّصْبُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَاعْلَمُوا، أَوْ: وَأَيْقِنُوا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ فَيَكُونُ نَصْبُهُ بِنِيَّةِ فِعْلٍ مُضْمَرٍ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى *** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا بِمَعْنَى: وَحَامِلًا رُمْحًا. وَالْآخَرُ: بِمَعْنَى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَبِأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ثُمَّ حُذِفَتِ "الْبَاء"، فَنَصَبَتْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فِي الْقِتَالِ (زَحْفًا)، يَقُولُ: مُتَزَاحِفًا بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَ" التَّزَاحُفُ "، التَّدَانِي وَالتَّقَارُب" {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} "، يَقُولُ: فَلَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ فَتَنْهَزِمُوا عَنْهُمْ، وَلَكِنِ اثْبُتُوا لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ عَلَيْهِم" {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} "، يَقُولُ: وَمَنْ يُولِهِمْ مِنْكُمْ ظَهْرَهُ {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}، يَقُولُ: إِلَّا مُسْتَطْرِدًا لِقِتَالِ عَدُوِّهِ، يُطْلَبُ عَوْرَةً لَهُ يُمْكِنُهُ إِصَابَتُهَا فَيَكُرُّ عَلَيْهِ {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أَوْ: إِلَّا أَنْ يُوَلِّيَهُمْ ظَهْرَهُ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ، يَقُولُ: صَائِرًا إِلَى حَيِّزِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَفِيئُونَ بِهِ مَعَهُمْ إِلَيْهِمْ لِقِتَالِهِمْ، وَيَرْجِعُونَ بِهِ إِلَيْهِمْ مَعَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، قَالَ: "الْمُتَحَرِّف"، الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَرَى غِرَّةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُصِيبُهَا. قَالَ، وَ" الْمُتَحَيِّزُ "، الْفَارُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ الْيَوْمَ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَإِنَّمَا هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا يَفِرُّوا. وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ فِئَتَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، أَمَّا "الْمُتَحَرِّف"، يَقُولُ: إِلَّا مُسْتَطْرِدًا، يُرِيدُ الْعَوْدَةَ {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}، قَالَ: "الْمُتَحَيِّز"، إِلَى الْإِمَامِ وَجُنْدِهِ إِنْ هُوَ كَرَّ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ طَاقَةٌ، وَلَا يُعْذَرُ النَّاسُ وَإِنْ كَثُرُوا أَنْ يُوَلُّوا عَنِ الْإِمَامِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}، هَلْ هُوَ خَاصٌّ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، أَمْ هُوَ فِي الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ لِأَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدْوِهِ وَيَنْهَزِمُوا عَنْهُ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَهُمُ الِانْهِزَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: ذَاكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا، وَلَوِ انْحَازَ أَحَدٌ لَمْ يَنْحَزْ إِلَّا إِلَى، قَالَ أَبُو مُوسَى: يَعْنِي: إِلَى الْمُشْرِكِينَ. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوِ انْحَازُوا انْحَازُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمٌ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}. حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ وَقَالَ عَلَيٌّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ دَاوُدَ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ أَبُو مُوسَى: حُدِّثْتُ أَنَّ فِي كِتَابِ غُنْدُرٍ هَذَا الْحَدِيثَ: عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: هَذِهِ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، أَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، أَمْ هُوَ بَعْدُ؟ قَالَ: وَكَتَبَ إِلَيَّ: "إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْر". حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الْفِرَارُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأً يَلْجَأُونَ إِلَيْهِ. فَأَمَّا الْيَوْمُ، فَلَيْسَ فِرَارًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً، لَيْسَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً. قَالَ، حَدَّثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: ذَلِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ. عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فُضَالَةٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَأَمَّا الْيَوْمُ، فَإِنِ انْحَازَ إِلَى فِئَةٍ أَوْ مِصْرَ أَحْسَبُهُ قَالَ: فَلَا بَأْسَ بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا قُبَيْصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: إِنَّمَا هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: أَوْجَبَ اللَّهُ لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ النَّارَ. قَالَ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقَتَّالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 155]. ثُمَّ كَانَ حُنَيْنٌ، بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ فَقَالَ: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 25]: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 27]. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُمَرَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِي عُبَيْدٍ فَقَالَ: لَوْ تَحَيَّزَ إِلَيَّ! إِنْ كُنْتُ لَفِئَةً! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ، حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}، قَالَ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةَِ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 66]. قَالَ: وَلَيْسَ لِقَوْمٍ أَنْ يَفِرُّوا مِنْ مِثْلَيْهِمْ. قَالَ: وَنُسِخَتْ تِلْكَ إِلَّا هَذِهِ الْعِدَّةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدٍ، جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا فِئَتُكُمْ. قَالَ: ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةَ حُكْمُهَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ عَنِ الْعَدْوِ مُنْهَزِمًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: حُكْمُهَا مُحَكَّمٌ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَحُكْمُهَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذَا لَقُوا الْعَدُوَّ، أَنْ يُوَلُّوهُمُ الدُّبُرَ مُنْهَزِمِينَ إِلَّا لِتَحَرُّفِ الْقِتَالِ، أَوْ لِتَحَيُّزٍ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَنْ وَلَّاهُمُ الدُّبُرَ بَعْدَ الزَّحْفِ لِقَتَّالٍ مُنْهَزِمًا بِغَيْرِ نِيَّةِ إِحْدَى الْخَلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَبَاحَ اللَّهُ التَّوْلِيَةَ بِهِمَا، فَقَدِ اسْتَوْجَبَ مِنَ اللَّهِ وَعِيدَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِعَفْوِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا هِيَ مُحَكَّمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لِحُكْمِ آيَةٍ بِنَسْخٍ، وَلَهُ فِي غَيْرِ النَّسْخِ وَجْهٌ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، مِنْ خَبَرٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، أَوْ حُجَّةِ عَقْلٍ، وَلَا حُجَّةَ مِنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، يَقُولُ: فَقَدْ رَجَعَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}، يَقُولُ: وَمَصِيرُهُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَهَنَّمُ "وَبِئْسَ الْمَصِير"، يَقُولُ: وَبِئْسَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْمَصِيرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَاتَلَ أَعْدَاءَ دِينِهِ مَعَهُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: فَلَمْ تَقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْتُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ. وَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَتْلَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، وَنَفَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ مُسَبِّبُ قَتْلِهِمْ، وَعَنْ أَمْرِهِ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ. فَفِي ذَلِكَ أَدَلُّ الدَّلِيلَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي أَفْعَالِ خَلْقِهِ صُنْعٌ بِهِ وَصَلُوْا إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، فَأَضَافَ الرَّمْيَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ، ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ هُوَ الرَّامِي، إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ الْمُوصِلُ الْمَرْمِيُّ بِهِ إِلَى الَّذِينَ رُمُوا بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُسَبِّبُ الرَّمْيَةَ لِرَسُولِهِ. فَيُقَالُ لِلْمُنْكِرِينَ مَا ذَكَرْنَا قَدْ عَلِمْتُمْ إِضَافَةَ اللَّهِ رَمْيَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نَفْسِهِ، بَعْدَ وَصْفِهِ نَبِيَّهُ بِهِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، كَانَ مِنَ اللَّهِ تَسْبِيبُهُ وَتَسْدِيدُهُ، وَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَذْفُ وَالْإِرْسَالُ، فَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ سَائِرُ أَفْعَالِ الْخَلْقِ الْمُكْتَسَبَةِ: مِنَ اللَّهِ الْإِنْشَاءُ وَالْإِنْجَازُ بِالتَّسْبِيبِ، وَمِنَ الْخَلْقِ الِاكْتِسَابُ بِالْقُوَى؟ فَلَنْ يَقُولُوا فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخِرِ مِثْلَهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ هَذَا: "قَتَلْت"، وَهَذَا: "قَتَلْت" {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، قَالَ لِمُحَمَّدٍ حِينَ حَصَبَ الْكُفَّارُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، قَالَ: رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَصْبَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا فِي عَيْنِ رَجُلٍ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: «لَمَّا وَرَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا قَالَ: هَذِهِ مُصَارِعُهُمْ! وَوَجَدَ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا طَلَعُوا عَلَيْهِ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ بِجَلَبَتِهَا وَفَخْرِهَا، تَحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي!". فَلَمَّا أَقْبَلُوا اسْتَقْبَلَهُمْ، فَحَثَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.» حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، سَمِعْنَا صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ صَوَّتَ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ، وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الرَّمْيَةَ فَانْهَزَمْنَا.» حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَا «لَمَّا دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ!"، فَدَخَلَتْ فِي أَعْيُنِهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فِي رَمْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، الْآيَةَ، إِلَى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.» حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، الْآيَةَ، ذُكِرِ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ وَرَمَى بِهَا وُجُوُهَ الْكُفَّارِ، فَهُزِمُوا عِنْدَ الْحَجَرِ الثَّالِثِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ يَوْمَ بَدْرٍ لَعَلِيٍّ: "أَعْطِنِي حَصًا مِنَ الْأَرْض"، فَنَاوَلَهُ حَصًى عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَرَمَى بِهِ وُجُوهَ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ رَدِفَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، فَذَكَرَ رَمْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. « حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْد» فِي قَوْلِهِ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، قَالَ: هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ، فَرَمَى بِحَصَاةٍ فِي مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ، وَحَصَاةٍ فِي مَيْسَرَةِ الْقَوْمِ، وَحَصَاةٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ!"، وَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. « حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: » رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تَعْبُدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا! فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ! فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوُلُّوا مُدَبِّرِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ مِنْ يَدِهِ حِينَ رَمَاهُمْ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، أَيْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَمْيَتِكَ، لَوْلَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ نَصْرِكَ، وَمَا أَلْقَى فِي صُدُورِ عَدُوِّكَ مِنْهَا حِينَ هَزَمَهُمُ اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ خِلَافُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، قَالَ: «جَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ، فَقَالَ: "آللَّهُ مُحْيِي هَذَا، يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ رَمِيمٌ؟ "، وَهُوَ يَفُتُّ الْعَظْمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحْيِيهِ اللَّهُ، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ! قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أَحَدٍ قَالَ: وَاللَّهِ لِأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا رَأَيْتُهُ! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.» وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَكَيْ يُنْعِمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِمْ، وَيُغَنِّمُهُمْ مَا مَعَهُمْ، وَيَكْتُبَ لَهُمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ "الْبَلَاءُ الْحَسَن"، رَمْيُ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْنِي بِ "الْبَلَاءِ الْحَسَن"، النِّعْمَةَ الْحَسَنَةَ الْجَمِيلَةَ، وَهِيَ مَا وَصَفْتُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، أَيْ لِيُعَرِّفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فِي إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ، وَلِيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُنَاشَدَتِهِ رَبَّهُ، وَمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ إِهْلَاكَ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّكُمْ، فَقِيلَ لَهُ: «إِنْ يَكُ إِلَّا جَحْشٌ! قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: أَنَا أَقْتُلُكَ؟ وَاللَّهِ لَوْ قَالَهَا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لَمَاتُوا» ! " وَلِقِيلِكُمْ وَقِيلِ جَمِيعِ خَلْقِهِ "عَلِيم"، بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ وَصَلَاحُ عِبَادِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، مُحِيطٌ بِهِ، فَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ وَأَمْرَ رَسُولِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ)، هَذَا الْفِعْلَ مِنْ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيِهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا، وَابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ بِالظَّفَرِ بِهِمْ، وَإِمْكَانِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ فَعَلْنَا الَّذِي فَعَلْنَا {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، يَقُولُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ ذَلِكَ مُضْعِفٌ "كَيْدَ الْكَافِرِين"، يَعْنِي: مَكْرَهُمْ، حَتَّى يَذِلُّوا وَيَنْقَادُوا لِلْحَقِّ، أَوْ يُهْلَكُوا. وَفَى فَتْحِ "أَن" مِنَ الْوُجُوهِ مَا فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ}، [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 14]، وَقَدْ بَيَّنْتُهُ هُنَالِكَ. وَقَدْ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (مُوهِنُ). فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: "مُوَهِّن" بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ: "وَهَّنْتُ الشَّيْء"، ضَعَّفْتُهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (مُوهِنُ)، مِنْ أَوْهَنْتُهُ فَأَنَا مُوهِنُهُ "، بِمَعْنَى: أَضْعَفْتُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالتَّشْدِيدُ فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَنْقُضُ مَا يُبْرِمُهُ الْمُشْرِكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، عَقْدًا بَعْدَ عَقْدٍ، وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ وَجْهًا صَحِيحًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، يَعْنِي: إِنْ تَسْتَحْكِمُوا اللَّهَ عَلَى أَقْطَعِ الْحِزْبَيْنِ لِلرَّحِمِ، وَأَظْلَمِ الْفِئَتَيْنِ، وَتَسْتَنْصِرُوهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَكُمْ حُكْمُ اللَّهِ، وَنَصْرُهُ الْمَظْلُومَ عَلَى الظَّالِمِ، وَالْمُحِقَّ عَلَى الْمُبْطِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ. قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: إِنْ تَسْتَقْضُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْمَدَدُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}، قَالَ: إِنْ تَسْتَقْضُوا الْقَضَاءَ وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا}، قُلْتُ: لِلْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ إِلَّا ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِه" ! فَفُتِحَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: اسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ _ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَنَفْسَهُ _ "أَيُّنَا كَانَ أَفْجَرَ لَكَ، اللَّهُمَّ وَأَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، فَأَحِنْهُ الْيَوْم" ! قَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: اسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَفْجَرَ لَكَ وَأَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، فَأَحِنْهُ الْيَوْمَ!" يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَفْسَهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، فَضَرَبَهُ ابْنَاعَفْرَاءَ: عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِى عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعَدُوِّيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، أَنَّ الْمُسْتَفْتِحَ يَوْمَئِذٍ أَبُو جَهْلٍ، وَأَنَّهُ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: "أَيُّنَا أَقْطَعُ لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاة" ! فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، الْآيَةَ، يَقُولُ: قَدْ كَانَتْ بَدْرٌ قَضَاءً وَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: "اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعَزَّ الْجُنْدَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْن" ! فَقَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، يَقُولُ: نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، وَذَلِكَ حِينَ خَرَجَ الْمُشْرِكُونَ يَنْظُرُونَ عِيرَهُمْ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِيرِ، أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، أَرْسَلُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: "أَيُّنَا كَانَ خَيْرًا عِنْدَكَ فَانْصُرْه" ! وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا}، يَقُولُ: تَسْتَنْصِرُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قَالَ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الْعَذَابَ، فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: وَكَانَ اسْتِفْتَاحُهُمْ بِمَكَّةَ، قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 32]. قَالَ: فَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْبَرَ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللَّهُمَّ انْصُرْ أَهْدَى الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْفِئَتَيْنِ وَأَفْضَل" فَنَزَلَتْ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}. قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ هُوَ الَّذِي اسْتَفْتَحَ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَفْجَرَ وَأَقْطَعَ لِرَحِمِهِ، فَأَحِنْهُ الْيَوْم" ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}. قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا لِرَحِمِهِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ! ". وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ، فَنَزَلَتْ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، الْآيَةَ. قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْتَفْتِحُ يَوْمَ بَدْرٍ أَبَا جَهْلٍ، قَالَ: "اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ!"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ قَالَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: "اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ!"، فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: "اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ!" قَالَ: "الِاسْتِفْتَاح"، الْإِنْصَافُ فِي الدُّعَاءِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَغَيْرِهِ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللَّهُمَّ انْصُرْ أَحَبَّ الدِّينَيْنِ إِلَيْكَ، دِينَنَا الْعَتِيقَ، أَمْ دِينَهُمُ الْحَدِيث" ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: "وَإِنْ تَنْتَهُوا"، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَجَمَاعَةَ الْكُفَّارِ، عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقِتَالِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ "فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم"، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، يَقُولُ: وَإِنْ تَعُودُوا لِحَرْبِهِ وَقِتَالِهِ وَقِتَالِ اتِّبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ "نَعُد"، أَيْ: بِمِثْلِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي أَوْقَعْتُ بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ}، يَقُولُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ لِهَلَاكِكُمْ بِأَيْدِي أَوْلِيَائِي وَهَزِيمَتِكُمْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ عِنْدَ عَوْدِي لِقَتْلِكُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَسَبْيِكُمْ وَهَزْمِكُمْ "فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَت"، يَعْنِي: جُنْدَهُمْ وَجَمَاعَتَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا لَمْ يُغْنُوا عَنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)، يَقُولُ جَلَّ ذِكْرُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْهُمْ، يَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُظْهِرُهُمْ كَمَا أَظْهَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، قَالَ: يَقُولُ لِقُرَيْشٍ "وَإِنْ تَعُودُوا نَعُد"، لِمِثْلِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي أَصَابَتْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، أَيْ: وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ لَنْ يُغْنِيَ عَنْكُمْ شَيْئًا. وَإِنِّي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، وَإِنْ تَعُودُوا لِلِاسْتِفْتَاحِ، نَعُدْ لِفَتْحِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ إِظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْلَاءَ كَلِمَتِهِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَفْتِحَ أَبُو جَهْلٍ وَحِزْبُهُ، فَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ: "إِنْ تَنْتَهُوا عَنِ الِاسْتِفْتَاحِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُد"، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَتْحَ بِقَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، [سُورَةُ الْحَجِّ: 39]، اسْتَفْتَحَ الْمُشْرِكُونَ أَوْ لَمْ يَسْتَفْتِحُوا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الثَّانِيَةَ نَفْتَحُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). فَفَتَحَهَا عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمَعْنَى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَطَفَ بِ "أَن" عَلَى مَوْضِعِ "وَلَوْ كَثُرَت"، كَأَنَّهُ قَالَ: لِكَثْرَتِهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَكُونُ مَوْضِعُ "أَن" حِينَئِذٍ نَصْبًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ فَتْحَهَا إِذَا فُتِحَتْ، عَلَى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، عَطْفًا بِالْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: "وَإِنَّ اللَّه"، بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَاعْتَلُّوا بِأَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِين". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ "إِن" لِلِابْتِدَاءِ، لِتَقَضِّي الْخَبَرُ قَبْلَ ذَلِكَ عَمَّا يَقْتَضِي قَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ}، يَقُولُ: وَلَا تُدْبِرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ "وَأَنْتُمْ تَسْمَعُون" أَمْرَهُ إِيَّاكُمْ وَنَهْيَهُ، وَأَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تُوَلُّوا وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، أَيْ: لَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ، وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لِقَوْلِهِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَكُونُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا: "قَدْ سَمِعْنَا"، بِآذَانِنَا "وَهُمْ لَا يَسْمَعُون"، يَقُولُ: وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ مَا يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، وَتَرْكِهِمْ أَنْ يُوعُوهُ قُلُوبَهُمْ وَيَتَدَبَّرُوهُ. فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ، إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوهَا بِأَذَانِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَتَرْكِ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَهُ بِآذَانِكُمْ، كَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ مَوَاعِظَ كِتَابِ اللَّهِ بِآذَانِهِمْ، وَيَقُولُونَ: "قَدْ سَمِعْنَا"، وَهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لَهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا مُعْرِضُونَ كَمَنْ لَا يَسْمَعُهَا. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، أَيْ: كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، وَيُسِرُّونَ الْمَعْصِيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (وَهْمْ لَا يَسْمَعُونَ)، قَالَ: عَاصُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِلَّذِي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجْهٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}، فِي سِيَاقِ قَصَصِ الْمُشْرِكِينَ، وَيْتُلُوهُ الْخَبَرُ عَنْهُمْ بِذَمِّهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ شَرَ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}، فَلِأَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَهُمَا خَبَرًا عَنْهُمْ، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِمْ.
|